العناوين
مفاهيم “الشيء” و”الوجود”
هناك كلمات تمتلك كل منها طبقات من المعاني تكاد تكون لا نهائية، بحيث تقتضي كل واحدة منها الأخرى.
هذه الآية، التي تبدو في الظاهر أنها تخبر زكريا فقط بأن “من الممكن لزوجته العجوز أن تلد طفلًا”، تفتح من جانب آخر بابًا لمعنى يضع حدًا لنقاش وجودي تم عبر كل حقبة وكل عصر في تاريخ البشرية.
يتم التعبير عن المسائل التي يُعتقد أنها تُفهم في مستوى التفكير المسمى بالعقل العالي بطريقة بعيدة عن التعقيد. وهذا يعني أن كل إنسان لديه عقل يمكنه الوصول إلى تلك الطبقة من المعنى.
هذه الجملة الصغيرة في الآية (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا) تحمل معنى هائلًا يتطلب حتى من الناس طاقة لتحمله.
عند النظر عن كثب إلى هذه الجملة التي تُترجم ببساطة إلى “وقد خلقتك من قبل ولم تكن شيئًا”، يتضح أنها ليست جملة عادية على الإطلاق.
التعبير في الجملة: (وَلَمْ تَكُ شَيْئًا) في الترجمة الحرفية: “لم تكن شيئًا أنت”.
هذه الجملة تعني أن زكريا كان “موجودًا” قبل أن يكون “شيئًا”.
وهذا يثير السؤال القديم التالي: “ما هي حقيقة الأشياء؟”
التعبير “من قبل” في الجملة يدعم هذا المعنى أيضًا، أي أن زكريا كان موجودًا قبل أن يكون “شيئًا”؛ كان موجودًا لكنه لم يكن “شيئًا”.
في هذه الحالة، يكتسب السؤالان “كيف يمكن للأشياء أن توجد قبل أن تكون ‘أشياء’؟” و**“كيف تصير الأشياء ‘أشياء’؟”** أهمية أكبر. في الواقع، ما يكتسب الأهمية هنا ليس السؤال نفسه، بل ظهور إمكانية الإجابة على السؤال.
من هنا، في العبارة “لم تكن ‘شيئًا’ أنت”، كلمة ‘شيء’ نكرة وتدل على الجنس، أي “لم تكن من نوع ‘الشيء’”؛ “كنت موجودًا لكنك لم تكن من نوع ‘الشيء’”.
إذا لوحظ، لا يُقال في هذه الجملة “أنت لم تكن موجودًا.”، ولا يُقال أيضًا “أنت لم تكن.”؛ بل يُقال “أنت لم تكن ‘شيئًا’.” / “أنت لم تكن ‘شيئًا’.”
عندما نأخذ هذه الجملة حالًا للجملة التي قبلها (والحال بالفعل)، يظهر معنى “أنت لم تكن ‘شيئًا’…” / “أنت لم تكن قد صرت ‘شيئًا’ بعد…”. أن تكون مثل هذه الجملة حالًا للجملة التي قبلها هو معجزة من معجزات القرآن، لأن الحال يكون لشيء يمكن أن يكون، ولا يكون هناك حال لغير الموجود.
أي أن لزكريا حالًا قبل أن يكون ‘شيئًا’…
كون هذه الكلمة قد قيلت لزكريا بشأن ‘يحيى’ الذي لم يتوقعه أبدًا هو معجزة أخرى.
هذا يعني أن يحيى كان حالة غير متوقعة بالنسبة لزكريا، لكنه كان دائمًا موجودًا في الخطة الإلهية.
‘كن’ والحركة الإلهية في الآية
قلنا في دروسنا السابقة إن حقيقة الوجود تكمن في ‘كن’.
‘كن’ هي إكساب الله تعالى لعلمه حركة. هذه الحركة ليست حركة بمعنى رفع اليد أو تحريك العينين أو تحريك الشفتين كما نعرفها.
إنها حركة لطاقة لا يمكن أبدًا الإحاطة بكنهها (وأستخدم كلمة “طاقة” لعجزي).
هذه الحركة بلا اتجاه، بلا مكان، بلا زمان، بلا جسم.
إن حقيقة الوجود هي تلك الحركة.
وقد عُبِّر عن هذه الحقيقة في القرآن بكلمة ‘كن’.