العناوين
معنى مفهوم الريْب
ذكر الأصفهاني أن معنى كلمة “الريْب” الواردة في هذه الآية هو “أن يكون لدى المرء ظنّ بشأن شيء ما ثم ينكشف ذلك”. ويتوقف الفهم الكامل لمعنى هذه الكلمة على فهم جيد للجزء في التعريف الذي يقول: “أن يكون لدى المرء ظنّ بشأن شيء ما ثم…”.
ضرورة الظنّ والتحقق
إن الظنّ بشأن شيء ما ثم تحقق هذا الظنّ يتجلى بشكل مختلف جدًا حسب الشيء المظنون فيه. فمثلاً، إذا كان الشيء المظنون فيه إنسانًا، فإن التحقق من الظنّ يكون فقط عن طريق الملاحظة، لأن الإنسان المظنون فيه حاضر أمامك بكل وجوده، ولكن لا يمكن تفكيكه والنظر داخله، لذا فإن التحقق من الظنّ يتطلب فقط الانتظار والمراقبة؛ أي أن “تحقق الظنّ” لا يعتمد على دخولك إلى داخله، بل على إخراجه لما في داخله إلى الخارج.
على سبيل المثال، لنفترض أن الشيء المظنون فيه هو “بطيخة”، وأن ظننا بشأنها هو “ربما تكون هذه البطيخة قرعًا”. يتحقق هذا الظنّ بقطع البطيخة والنظر إلى داخلها، لأن “البطيخة” لا تملك القدرة على إخراج ما في داخلها دون أن تقطعها.
إذا كان الشيء المظنون فيه “إنسانًا”، فإن الوضع يختلف تمامًا. فمثلاً، لنفترض أن طبيبًا ينظر إلى الأعراض الظاهرة على المريض أمامه ولا يستطيع أن يقرر تمامًا بشأن مرض المريض، ولكن لديه ظنّ قوي بشأن المرض. للتحقق من ظن الطبيب، يحتاج المريض إلى إخراج أشياء من داخله مثل “البول، البراز، القيء، الدم، الصديد”. هذا هو السبب في أن الأطباء يقومون بإجراء اختبارات الدم والبول والبراز.
إذا كان الظنّ بشأن الإنسان ليس مثل ظن الطبيب بمرضه، بل يتعلق بقيمه المجردة مثل “جيد، سيئ، عالم، جاهل، صادق، كاذب”، فإن هذا لا يتحقق عن طريق تحليل الدم أو البول، بل يتم التحقق منه بالنظر إلى أقوال وأفعال الشخص التي تظهر باطنه.
سياق الآية وتحليلها
في الآية 23 من سورة البقرة، نرى أن الشيء الذي يُشك فيه هو “ما أنزلناه على عبدنا”. في هذه الحالة، يجب أن يكون المسار كما يلي:
المخاطبون يتعاملون مع رسول. الرسول يقول إن الله أعطاه كتابًا ليبلغه للناس، وهو يقوم بتبليغه. لم يشهد أي عين أن الرسول تلقى كتابًا من الله، ولم تسمع أي أذن ذلك. في هذه الحالة، سيتشكل سؤال “لعلّ؟” في ذهن كل إنسان بشأن الكتاب الذي يبلغه الرسول، وهذا طبيعي تمامًا. هذا السؤال “لعلّ؟” هو الظنّ.
سواء كان المخاطبون مؤمنين أم كفارًا، فإن الإيمان أو عدم الإيمان بما جاء به الرسول في البداية دون النظر إلى مضمونه هو ظنّ. يتحقق هذا الظنّ بشيء واحد فقط: قراءة الكتاب المُنزل على العبد وفهمه.
أمام قول الرسول: “تلقيت كتابًا من الله لأبلغه إليكم”، يكون لدى الإنسان نوعان من الظنّ:
- “ربما يكون هذا الرجل كاذبًا”.
- “ربما يكون هذا الرجل صادقًا”.
ولكن سواء قيل عنه “صادق” أو “كاذب”، فكلاهما في هذه المرحلة مجرد ظنّ.
الذين لديهم ظن “إنه صادق”، يتحقق ظنهم بالوصول إلى “الإيمان اليقيني”؛ والذين يقولون “إنه كاذب”، يتحقق ظنهم بالوصول إلى “الريب”؛ ولكن تحقق كلا الظنين يعتمد فقط وفقط على فهم الكتاب.
التحدي والإعجاز القرآني
الآن، عندما نلاحظ في الآية “وإن كنتم في ريبٍ مما نزّلنا على عبدنا…”، ونأخذ في الاعتبار أن معنى كلمة “الريب” هو “تحقق الظنّ”، فهذا يعني أن هؤلاء الأشخاص كانوا قد ظنوا في البداية بشأن الكتاب قائلين: “هذا لا يمكن أن يكون من عند الله”، ثم ليتحققوا من هذا الظن، قرؤوا الكتاب جيدًا وفهموه، وفي النهاية أصبحوا أشخاصًا تحقق لديهم ظنهم الأول.
ذكرنا أن الأمر في الآية ”… فأتوا بسورة من مثله…” هو فعل أمر لإعجازهم؛ أي بما أنكم ظننتم أولاً بشأن الكتاب “هذا لا يمكن أن يكون من عند الله”، ثم لتحقق هذا الظن قرأتم الكتاب جيدًا وفهمتموه، وفي النهاية وصلتم إلى “الريب” بأن الكتاب ليس من عند الله، “فإذاً يجب أن يكون من السهل عليكم جدًا أن تأتوا بسورة مثل هذا الكتاب الذي هو جزء منه، فهيا، ليس كله، بل ائتوا بسورة واحدة لنرى.”
هذا هو المسار الكامن وراء الآية. في أول سورة البقرة قيل “لا ريب فيه”، ومع ذلك فهم في “ريب”. إذًا، إما أن “من يقول لا ريب فيه” يكذب، أو “من هم في ريب”.
هناك جانب آخر لهذه المسألة: أن يقوم الشخص بالتلاعب بالمعلومات لجعل ظنه صحيحًا، ثم يتظاهر بأن ظنه قد تحقق. وهذا يتم غالبًا عن طريق اقتطاع المعلومات من سياقها في الكتاب (السياق السابق واللاحق، وحدة الكتاب، اللفظ، المعنى، العلاقات بين اللفظ والمعنى والمصداق). ولهذا السبب شُدّد النكير في سورة الحجر على “الذين جعلوا القرآن عضين” أي قسّموه إلى أجزاء منفصلة.
على سبيل المثال، يقول بعض الأشخاص إن “سورة البقرة تتكون من 100 قطعة منفصلة عن بعضها”. عندما يرى الإنسان مثل هؤلاء، لا يسعه إلا أن يقول: “مع وجود مؤمنين كهؤلاء، ما الحاجة إلى الكافر!”
هؤلاء لا ينتجون المعلومات لتأكيد ظن المؤمن، بل يبذلون جهدهم لتأكيد ظن الكافر، وهذا موضوع آخر…